بنكيران وأخنوش…من يربي من؟

في بلاد يخطو سياسيوه نحو تشويه العمل السياسي، لا عجب أن يصبح التهجم على الشعب فضيلة، وأن يتحول الخطاب السياسي من أداة تواصل إلى سوط يجلد به المختلفون، ومن وسيلة للإقناع إلى وسيلة للوعيد والتهديد، لقد أصبح بعض الساسة يتعاملون مع الشعب كما يتعامل الإقطاعي مع خدمه: يأمرهم، يزجرهم، وإذا ما تجرؤوا على الاعتراض، اتهمهم بالجهل، والعمالة، وانعدام التربية.

لا فرق بين من وصف فئة من أبناء الوطن بـ”الحمير والميكروبات”، وبين من توعدهم بإعادة “التربية”، كلاهما خرج عن جادة اللباقة السياسية، وكلاهما كشف عن عجز عميق عن فهم الدور الحقيقي للسياسي: أن يُقنع لا أن يقمع، أن يحتضن النقد لا أن ينبذه، أن يسمو بالأخلاق لا أن يغرق في مستنقعات الشتيمة.

الأول، أمين عام حزب كان يفاخر في يوم من الأيام بأنه الأقرب إلى نبض الشارع، تحول اليوم إلى نموذج للفوقية السياسية، هذا الرجل، الذي جلس حزبه على كرسي رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين، لم يستطع أن يتحمل معارضة سلمية، واختلافا في التوجهات، بل رد على منتقديه بأوصاف لا تليق بمن تدرب طيلة سنوات على الخطابة، ولا بمن يدعي الدفاع عن القيم.

نسي أو تجاهل أن الديمقراطية تقوم على أساس الاختلاف، وأن المواطن الذي ينتقد اليوم هو نفسه من صوت له بالأمس، لكنه لم ير في المنتقدين سوى “حمير”، ولم ير في المعارضين سوى “ميكروبات”، وكأن السياسة أصبحت مختبرا بيولوجيا يصنف فيه البشر وفق درجة الولاء والطاعة.

ما هكذا تبنى الأوطان، ولا هكذا يُخاطب المواطن، فالكلمات، حين تصدر من رجل دولة، تصبح وثائق تسجلها الذاكرة الجماعية، وتتحول إلى معايير يقاس بها مدى نضج الفاعل السياسي وقدرته على التحكم في لسانه ساعة الغضب.

أما الثاني، رئيس الحكومة الحالي، فقد ارتقى درجة في التعالي، فلم يكتف بوصف أو استهزاء، بل أعلن نيته “إعادة تربية المغاربة”، قالها بكامل ثقته، وكأن الأمر يتعلق بحصة في رياض الأطفال، لا بأمة من الناس لها تاريخها، وكرامتها، ووجعها اليومي.

“إعادة التربية”؟ أهي رسالة من أب غاضب لأبنائه؟ أم أنها تهديد صريح مبطن بالتسلط؟ ويبدو أن رئيس الحكومة يرى في نفسه المربي، وفي الشعب التلميذ الذي أخطأ المسار ويحتاج إلى تقويم، لكن من قال له إن الشعب يربى بالعصا؟ من قال إن الوطنية تُلقن بالإهانات؟

هو لم يقل كيف سيعيد تربيتنا، لكنه فعل، أعاد تهيئتنا على صم الآذان أمام الغلاء، وأعاد تشكيل صبرنا على شكل طوابير انتظار أمام محطات البنزين وأسواق الخضر، علّمنا أن نُخضع جيوبنا لقانون السوق، وأن نخضع كرامتنا لسياسة “شد الحزام حتى الاختناق”.

ما يُثير السخرية حقا، هو أن من يتحدث عن التربية لم ينجح بعد في تربية سياساته على النضج، فإصلاحاته لم تدخل بيتًا فقيرا إلا وتركت فيه سؤالا: من نحن في حسابات الحكومة؟ أي دور خصص لنا في ميزانية الدولة؟ هل نحن مجرد أرقام على ورق، أم بشر تسرق منا أعمارنا ونحن نحاول النجاة من ارتفاع الأسعار والضرائب والخدمات المنهارة؟

“أعاد تربيتنا”، نعم، ولكن وفق منطق جديد : أن نرضى بالقليل، وأن نصفق للفشل، وأن نبرر الصمت، وصار المواطن – تحت ضغط يومي – يختار الجوع على أن يخرج للاحتجاج، ويختار الانحناء بدل أن يتهم بالفوضى، إنها تربية الخوف، تربية الاستسلام، تربية اليأس.

في الحقيقة، السؤال الأكبر لم يعد متعلقا بما قاله هذا السياسي أو ذاك، بل بما يختزن خلف كل هذه التصريحات من منطق استعلائي خطير، من يُربّي من؟ هل يربي الفشل الصمود؟ هل تربي السلطة من انتخبها وعلّق آماله عليها؟ هل يُربى المواطن وهو الذي علم الحاكم معنى الوجود السياسي حين منحه الشرعية؟

لسنا في حاجة إلى من يربّينا، بل إلى من يحترمنا، فالشعب الذي يصنع حضارته تحت سياط القهر لا يعاد تربيته، بل يعاد له الاعتبار، والتربية، في معناها النبيل، ليست كسرا ولا تهديدا، بل احتضانا وفهما، وتقديرا لمعاناة الناس لا تحويلها إلى أداة للسخرية.

في زمن الأزمة، يظهر جوهر السياسي الحقيقي، فإما أن يرتقي بلغة الخطاب لتكون بلسما يداوي، أو يسقط بها لتصبح سيفا يشق الصف الوطني، السياسة أخلاق، لا منابر، والقائد الحقيقي ليس من يجلد شعبه بالكلمات، بل من يحمل همومهم، ويبحث عن مفاتيح الحل في عمق الأزمة، لا في حناجر التنمر.

الشعب المغربي لا يحتاج إلى إعادة تربية، بل إلى إعادة ثقة، ثقة في مؤسسات تحترم صوته، ومسؤولين يعترفون بأخطائهم، ويضعون الوطن فوق الكرسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.