تطرق مقال للكاتب جويل لبلانك نشر بمجلة لاكتياليتي, لظاهرة وآفة أصابت معظم الجامعات والمراكز والمؤسسات البحتية بالعالم، حيث تصاعدت عمليات الاحتيال والتزوير في البحوث العلمية لتتحول لصناعة ممنهجة أفسدت العلم والمعرفة ولا تنجو منظومة البحث العلمي في المغرب من تأثير هذه الظاهرة العالمية. ففي سباق الجامعات والمؤسسات الأكاديمية نحو تحسين الترتيب الدولي، تزايد الضغط على الباحثين المغاربة للنشر بكميات كبيرة، ما أدى إلى ظهور مشكلات مشابهة، حيث يتم الوقوع في شِباك المجلات المفترسة إذ تشير العديد من التقارير غير الرسمية والتحليلات إلى وجود عدد لا يستهان به من المنشورات الصادرة عن باحثين مغاربة في دوريات ضعيفة الجودة، كوسيلة سهلة وسريعة منهم لاستيفاء شروط الترقية أو التسجيل في الدكتوراه أو مناقشتها، متجاوزين بذلك معايير الجودة والتحكيم العلمي الصارم. بالإضافة إلى غياب آليات رصد واضحة، وإرادة سياسية حقيقية، فعلى الرغم من جهود الجامعات لرفع مستوى الجودة، يظل رصد وتحديد حجم الاحتيال والتزوير أمراً صعباً ومعقداً، وغالباً ما يتم اكتشاف هذه الحالات بشكل فردي ومتأخر.
إن التحدي الذي يواجه الجامعات المغربية اليوم ليس فقط في زيادة الإنتاج، بل في حماية سمعة البحث العلمي من عمليات التزييف التي تهدد مصداقيته محلياً ودولياً.
وفيما يلي أهم النقاط التي عالجها هذا المقال.
لطالما كان الاحتيال العلمي موجوداً، لكنه اليوم وصل إلى أبعاد غير مسبوقة، متحولاً إلى صناعة مُنظمة. يكشف هذا التحول الخطير عن نقاط ضعف جوهرية في النظام الأكاديمي، مما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل البحث.
من التزوير الفردي إلى الأزمة المنهجية: حالة جوناثان برويت
تُعد قضية الباحث النجم السابق جوناثان برويت، المتخصص في سلوك العناكب بجامعة ماكماستر، مثالاً صارخاً. بعد أن كان شخصية مؤثرة ومؤلفاً غزير الإنتاج، كشف زملاؤه في عام 2021 أن البيانات التي قدمها كانت مُختلقة بالكامل.
وبعدها كانت النتيجة وخيمة:
* تم سحب اثني عشر مقالاً له بسبب تهم الاحتيال.
* أظهر تحقيق جامعي تورطه في العديد من عمليات التزوير.
* سحبت جامعته الأم أطروحة الدكتوراه الخاصة به.
* قدم استقالته في يوليو 2022، متحوّلاً من بطل إلى منبوذ في غضون 18 شهراً.
لكن السؤال الأكثر إثارة للقلق هو: كم عدد المحتالين الذين يفلتون من العقاب؟
أرقام تُنذر بالخطر: الزيادة الأُسّية في عمليات السحب
تؤكد دراسة حديثة نشرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) مدى تفاقم المشكلة. تُظهر الأرقام ارتفاعاً هائلاً في عمليات سحب (Retractions) المقالات:
ففي سنة 1995 بلغ عدد المقالات المنشورة مليون ونصف، وبلغ عدد المسحوبة منها أقل من مائة مقال.
وفي سنة 2020 بلغ عدد المقالات المنشورة خمسة ملايين، وبضف بلغ 40 مرة وصل عدد المقالات المسحوبة أربعة آلاف مقال.
يشير الباحثون إلى أن عدد المنشورات الاحتيالية يزداد بمعدل أعلى بكثير من المنشورات المشروعة. الأسوأ من ذلك، يُقدّر المؤلفون أن 75% من المقالات الاحتيالية قد لا يتم اكتشافها أبداً، مما يعني أن كمية كبيرة من “المعرفة” المنشورة قد تكون غير صحيحة.
“انشر أو اهلك”: ثقافة التقييم كمحفز للاحتيال
لفهم السبب وراء هذا الارتفاع، يجب النظر إلى ثقافة “الكمّ قبل الكيف” في الأوساط الأكاديمية. المبدأ هو “Publish or perish” (انشر أو تهلك). يتم تقييم الباحثين عند التوظيف أو منح التمويل بناءً على عدد أبحاثهم المنشورة.
هذا الضغط يفتح الباب أمام حيل متعددة منها:
* التجزئة (Salami Slicing): تقسيم نتائج دراسة واحدة إلى عدة مقالات صغيرة.
* التزييف الصريح: اختلاق نتائج أو بيانات لزيادة “أهمية” العمل.
ظهور صناعة الاحتيال: المجلات المفترسة و “مطاحن المقالات”
استغلت الجهات غير الشريفة نقاط ضعف النظام، ما أدى إلى ظهور كيانات جديدة:
1. المجلات المفترسة (Predatory Journals)
هي مجلات لا تطبق نظام “مراجعة الأقران” (peer review) الحقيقي. هدفها الوحيد هو جني الرسوم المالية مقابل النشر، حيث تقبل أي شيء دون تقييم علمي صارم. تسمح هذه المجلات للباحثين بتضخيم سيرهم الذاتية بسهولة.
2. مطاحن المقالات (Paper Mills)
هي “مصانع” تقع عادةً في مناطق مثل الصين أو الهند أو روسيا، تنتج مقالات ضعيفة الجودة أو خيالية تماماً على نطاق واسع. تبيع هذه الكيانات إمكانية وضع اسم الباحث كمؤلف على هذه الأبحاث الجاهزة، مما يتيح له نشر “العلم” دون القيام بالبحث فعلياً.
الذكاء الاصطناعي يُصعّب الأمر:
يحذر الخبراء، مثل فنسنت لاريڤيير من جامعة مونتريال، من أن أدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة تُمكّن هذه “المطاحن” من توليد عشرات المقالات الاحتيالية يومياً، بما في ذلك الرسوم البيانية والجداول، والتي تبدو موثوقة للغاية للعين غير المدربة.
العواقب المدمرة: الارتكاز على علم مُزيف
تعتمد المعرفة العلمية على بناء الاكتشافات الجديدة فوق القديمة. وعندما تكون الأعمدة الأساسية مزيفة، ينهار البناء.
خير مثال على ذلك هو بحث ألزهايمر. دراسة بارزة نُشرت في مجلة Nature عام 2006 حول دور لويحات الأميلويد، تم الاستشهاد بها كمرجع لعقد ونصف. في عام 2023، ظهرت شكوك حول التلاعب بالصور، وفي يونيو 2024، سُحبت الورقة رسمياً. هذا يعني أن أكثر من 15 عاماً من الأبحاث اللاحقة أُهدرت جزئياً بسبب الاعتماد على أساس متزعزع.
الخلاصة المأساوية، كما يشير مؤلفو PNAS: “قد يكون الأدب العلمي في بعض المجالات تعرض لضرر لا يمكن إصلاحه بسبب الاحتيال.”
الحل: تغيير ثقافة التقييم
يطالب الخبراء بتغيير جذري لمواجهة هذا التهديد. يقول فنسنت لاريڤيير: “يجب على جامعاتنا ومؤسساتنا المانحة التوقف عن تقييم جدارة الباحثين على أساس كمية منشوراتهم“.
يجب أن تتحول الأولوية من السباق المحموم نحو الكمية إلى التركيز على جودة البحث وأصالته وإمكانية تكراره، وإلا ستبقى مصداقية العلم قيد التهديد.