الذكاء الاصطناعي.. العفريت الرقمي

كم مرة راودتنا فكرة امتلاك مصباح سحري حتى يتسنى لنا فركه كل مرة نمر فيها بذائقة. لنسمع ذلك الصوت الخشن المألوف “شوبيك لوبيك عبدك بين يديك”. ذلك العفريت الغامض الذي نراه مجسدا في الأفلام والمسلسلات الكرتونية ونحن صغار، يحقق الأمنيات، ويحول المستحيل الى ممكن، تتمنى ثروة؟ يعطيك المال. تتمنى حكمة؟ يرشدك بكلمة واحدة ساحرة. تطلب قوة أو نفوذا فيمنحك ما تشاء دون عناء أو انتظار. ولو كان ذلك مجرد أحلام وتخيلات لكننا في ذلك الوقت كنا نتمنى أي شيء فيه متعة لنا، حتى كبرنا واكتشفنا أن لا وجود لشيء اسمه المصباح السحري ولا كائن غريب يدعى العفريت يخرج من دخان أزرق ليحقق الأمنيات. الحقيقة الوحيدة التي اكتشفناها أن فعلا هناك عفاريت، لكن بقناع مختلف.

توالت الأيام وتحققت الأمنية، فجأة ظهر عفريت حقيقي يعيش داخل مصباح صنعته التكنولوجيا. مصباح مختلف تماما عن المصباح التقليدي. عفريت يحقق رغبات مختلفة عن رغباتنا ونحن صغار. لا يعيش في مصباح، بل في الهاتف والحاسوب، لا يحتاج الى فرك ولا دعاء. يحقق أمنياتك الرقمية  يكتب بدلنا، يفكر عوضنا، يختار الكلمات التي نعجز عنها، ويقترح الحلول التي لم نتعب في البحث عنها. يصلح مقالاتنا، يفسر أحلامنا، يعالج مشاكلنا الزوجية، يكتب لك رسالة اعتذار، رسالة استقالة، رسالة عتاب، وحتى رسالة وداع إن لزم الأمر. يفك المشاكل التي صنعناها، ويقترح حلولا لمشاكل لم نفهمها أصلا ويمنح نصائح للحياة بثقة مدهشة… وكأنه عاش معنا، وجرب خيباتنا واحدة واحدة.

وانت جالس على كرسيك ترتشف لك فنجان قهوة منسمة، تنتظر الإجابة كما تنتظر الفتوى عند شيخ حكيم. إنه عفريت يسهل أمور حياتك فهو الأب والأم والأخ والصديق والمحلل النفسي والاجتماعي، يخفف عنك أحزانك وينصحك ويجبر خاطرك تحس به قريبا منك ولا يطلب مقابلا . يحاورك، فلم تعد بحاجة الى من تشكو له همومك وأفراحك، يوفر كل شيء لا ينقصه سوى أن يكون عرافا أو منجما وعالم أبراج يضرب الأخماس في الأسداس ويعطيك حقيقة ماضيك ومستقبلك الذي لا يعلم به الا من خلقك .

المثير للسخرية أننا صرنا نثق به أكثر مما نثق بأنفسنا. نسأله قبل أن نسأل ذواتنا، ونستشيره قبل أن نتحمل مسؤولية القرار. وإذا أخطأنا، كان العذر جاهزا: “هكذا قال الذكاء الاصطناعي”.

فتحول هذا العفريت الرقمي من أداة مساعدة إلى مرجعية، ومن وسيلة إلى سلطة ناعمة. لا يصرخ، لا يأمر، لكنه يقترح… ونحن نطيع. يبتسم في صمت، ونحن نمنحه مفاتيح عقولنا واحدة تلو الأخرى. لسنا أمام ذكاء اصطناعي مخيف، بقدر ما نحن أمام إنسان مستريح. إنسان تنازل طوعا عن حقه في التفكير، مقابل إجابة سريعة، وحل بلا صداع، وقرار لا يتحمل مسؤوليته كاملة.

لقد وفر لنا الذكاء الاصطناعي كل شيء تقريبا: المعرفة السريعة، الحلول الجاهزة، والإجابات الفورية. لكنه في المقابل بدأ يسلبنا شيئا فشيئا متعة البحث، وألم المحاولة، وحتى حق الخطأ. صرنا نطلب الجواب قبل أن نفهم السؤال، ونبحث عن الحل قبل أن نعيش التجربة . لكن الحقيقة التي لا ينبغي أن ننساها، أن كل هذا الذكاء  مهما بلغ يظل أداة، لا بديلا عن العقل الإنساني، ولا عن التجربة البشرية بكل تناقضاتها وأخطائها. فالعفريت الجديد، مهما بدا حكيما وقريبا، لا يعلم الغيب، ولا يملك الحقيقة المطلقة، ولا يعرف عن مصائرنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا.

ربما لم نعد بحاجة إلى مصباح علاء الدين، لكننا بحاجة ماسة إلى وعي لا ينخدع ببريق الشاشة، وإلى توازن يجعلنا نستخدم هذا العفريت الرقمي دون أن نسلم له عقولنا وأقدارنا.

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.