بقلم أيوب الرماش
من جديد، يهتز الرأي العام الوطني على وقع جريمة مفزعة، راحت ضحيتها أستاذة بمدينة أرفود، طُعنت على يد تلميذ داخل فضاء يفترض فيه أن يكون آمناً ومحفزاً للتعلم، وهذا الحادث الصادم ليس مجرد فعل فردي معزول، بل هو مرآة عاكسة لأزمة مركبة تعيشها المدرسة المغربية، حيث تتقاطع الانهيارات النفسية، والاحتقان الاجتماعي، والاختلالات البنيوية في المنظومة التربوية، لتفرز هذا النوع من المآسي.
في أعقاب هذه الجريمة، سارعت الأصوات إلى إدانة سلوك التلميذ، واستحضار مسؤولية الأسرة في التربية، وتأكيد الحاجة إلى حماية الأطر التربوية. هذه ردود فعل طبيعية، لكنها تظل ناقصة إن لم تستحضر كل أبعاد العنف داخل المؤسسات التعليمية، بما في ذلك ذاك العنف “الناعم” أو “المشروع” أحياناً، الصادر عن بعض الأساتذة أنفسهم تجاه التلاميذ.
إن العنف في المدرسة ليس اتجاهًا أحاديا، بل علاقة معقدة ومركبة بين جميع الأطراف. فمثلما يُعتدى على الأستاذ في بعض الحالات، يُمارَس العنف أحيانًا باسم السلطة التربوية ضد التلميذ، في صمت يشبه التواطؤ المؤسساتي. والواقع أن مظاهر هذا العنف متعددة، بعضها صار مألوفًا حتى كاد يُشرعن.
تتنوع أشكال العنف التي قد يمارسها بعض الأساتذة داخل الفصل الدراسي، حيث يظهر العنف اللفظي في استخدام كلمات مهينة أو السخرية من لهجة التلميذ، أو مظهره، أو حتى مستواه الدراسي، مما يخلق لديه شعورًا بالإحراج والدونية. أما العنف النفسي، فيتمثل في تجاهل التلميذ، أو تهميشه داخل القسم، أو تصنيفه بشكل سلبي يؤثر على ثقته بذاته. ويتجسد العنف التربوي حين يغيب التشجيع ويسود الخوف، أو عندما تُمارَس سلطة الأستاذ دون عدالة في التقييم أو في المعاملة. وبالرغم من أن العنف الجسدي قد تراجع في المدن، إلا أنه لا يزال قائمًا في بعض المناطق، حيث يُعتبر وسيلة تقليدية للتأديب، رغم ما يسببه من أذى نفسي وجسدي.
أمام هذه الممارسات، نجد تلاميذ يعانون في صمت، ويفقدون الثقة في المدرسة كفضاء يُعترف فيه بكرامتهم. ومثل هذا التراكم النفسي قد يتحول في بعض الحالات إلى انفجار غير متوقع، كما حدث في أرفود، حين يتحول التلميذ من ضحية إلى جلاد.
لكن، بدل الوقوف عند السلوك الظاهر، وجب طرح السؤال الحقيقي: ما الذي يدفع تلميذاً في عمر الزهور لحمل سلاح؟ هل هي أزمة تربية؟ أم فشل المدرسة في احتضانه؟ أم غياب التوجيه النفسي؟ أم كل ذلك مجتمِعاً؟
كما ينبغي أن نتساءل هل كل أستاذ يتمتع بالكفاءة التربوية والتواصلية الكفيلة بضبط القسم وتحفيز التلميذ؟ هل فعلاً نُكوِّن أساتذة قادرين على بناء علاقة تربوية سليمة مع المتعلمين؟ أم نُسلّمهم قسماً ونحاسبهم فقط على الغياب والحصص؟
إن مشهد العنف في المدرسة، سواء أكان من التلميذ أو الأستاذ، هو نتيجة فشل جماعي، فقد فشلت المنظومة التكوينية في تأهيل الأستاذ لمواكبة التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع، كما تراجعت الأسرة عن دورها التربوي، تاركة الأبناء في مواجهة تأثيرات الشارع والمنصات الرقمية. وفي الوقت ذاته، غابت الدولة عن توفير بنية متكاملة للدعم النفسي والوساطة التربوية داخل المؤسسات التعليمية، بينما عجز الإعلام عن رسم صورة متوازنة وواقعية للمدرسة وأدوارها في بناء الإنسان والمجتمع.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط قوانين لحماية الأساتذة أو “أيام تحسيسية”، بل رؤية شاملة تعيد تعريف العلاقة التربوية بين الأستاذ والتلميذ. نحتاج إلى مدرسة تُصلح قبل أن تُحاسب، تُصغي قبل أن تُعاقب، وتُربّي قبل أن تُعلِّم.
في حين تتحول المدرسة إلى ساحة للصراع، ويسقط الأستاذ شهيد بين جدران الفصل، فإن الجريمة ليست فقط طعنة في الجسد، بل طعنة في مفهوم التربية نفسه. وحين نلوم التلميذ وحده، نكون كمن يُخفي الجرح بضمادة، دون أن يعالجه من الداخل.