لطالما كانت المدن، عبر التاريخ، نقاط ارتكاز للحضارات ومراكز للثقافة والتجارة والسلطة. لكن اللافت للنظر في بعض الحالات، هو أن هذه المراكز الحضرية لم تبق مجرد مدن، بل تحولت بمرور الزمن وتراكم الأحداث إلى كيانات سياسية أكبر بكثير، لتصبح دولاً قائمة بذاتها. هذه الظاهرة لا تقتصر على نموذج واحد، بل تتجلى في صور متعددة تعكس تعقيدات التاريخ والجغرافيا والتحولات الاجتماعية والسياسية.
لطالما كانت الجزائر محورًا للعديد من التحولات التاريخية، فمن مدينة صغيرة برزت أهميتها تدريجيًا لتصبح إيالة عثمانية قوية، قبل أن تتحول على يد الاستعمار الفرنسي إلى الدولة التي نعرفها اليوم. هذه الرحلة المعقدة والمتشابكة تستدعي فهمًا عميقًا للجذور التاريخية التي صاغت هوية الجزائر.
الجزائر: في البدء كانت مدينة
في بطون كتب التاريخ، لم تكن الجزائر في نشأتها دولة بالمعنى الحديث، بل كانت تُعرف كمدينة ساحلية مهمة، غالبًا ما يشار إليها باسم “مدينة الجزائر”. موقعها الاستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط جعلها مركزًا تجاريًا وبحريًا حيويًا منذ العصور القديمة. كانت المدينة تُعرف بأسوارها وحصونها ومينائها الذي استقبل السفن من مختلف أنحاء العالم. كانت الحياة السياسية والاقتصادية تتركز بشكل كبير حول هذه المدينة، مع وجود كيانات قبلية وممالك محلية منتشرة في المناطق الداخلية.
الجزائر جزء من الكيانات المغربية عبر التاريخ
تُقدم لنا كتب التاريخ غالبًا صورة مُبسطة للحدود الوطنية الحالية كأنها كانت موجودة دائمًا، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وتشابكًا. فقبل تشكّل الجزائر كدولة بحدودها الراهنة تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كانت أراضيها – أو على الأقل أجزاء كبيرة منها – جزءًا لا يتجزأ من كيانات سياسية مغربية متعاقبة، شهدت فترات من الوحدة والنفوذ المتبادل.
تُعد حقبتا المرابطين (1040-1147 م) والموحدين (1121-1269 م) ذروة الوحدة السياسية في بلاد المغرب والأندلس. فكلا الإمبراطوريتين نشأتا من المغرب الأقصى، تحديدًا من جبال الأطلس، ثم بسطتا سيطرتهما على كامل شمال إفريقيا وصولًا إلى ليبيا، وعبرتا مضيق جبل طارق لفتح الأندلس.
فالمرابطون سيطروا على مناطق واسعة من الجزائر، وكانت مدن مثل تلمسان وندرومة تحت نفوذهم المباشر. كانت هذه المناطق تُدار كجزء لا يتجزأ من الإمبراطورية المرابطية التي وحّدت القبائل والأراضي تحت راية واحدة.
والموحدون الذين خلفوا المرابطين، وسّعوا نفوذهم ليشمل كامل الجزائر الحالية، بما في ذلك المناطق الشرقية والواحات الصحراوية. كانت الجزائر جزءًا أساسيًا من هذه الإمبراطورية الموحدية الشاسعة، التي كانت الرباط ومراكش وإشبيلية من أهم مراكزها الإدارية والعسكرية. في هذه الفترة، كانت المدن الجزائرية مثل بجاية وتلمسان مراكز ثقافية واقتصادية هامة ضمن الإمبراطورية الموحدية.
بعد سقوط الموحدين، تراجعت وحدة المغرب الكبير، لكن المرينيين (1244-1465 م) الذين حكموا من فاس، حافظوا على نفوذهم في أجزاء كبيرة من الجزائر الغربية والوسطى. كانت هناك صراعات مستمرة مع السلالات المحلية التي حكمت في تلمسان (الزيانيون)، لكن تلمسان نفسها كانت لفترات طويلة جزءًا من الصراع على النفوذ المغربي، وغالبًا ما كانت تخضع لسلطان فاس بشكل مباشر أو غير مباشر. وكذلك الأمر بالنسبة للوطاسيين (1472-1554 م) الذين ورثوا حكم المرينيين.
وحتى قبيل وصول العثمانيين في القرن السادس عشر، كانت العلاقة بين الأجزاء الغربية والوسطى من الجزائر وبلاد المغرب الأقصى علاقة تاريخية وجغرافية عميقة. كانت القبائل تتنقل بحرية، والولاءات السياسية تتداخل، والهوية الثقافية والدينية كانت واحدة. لم تكن الحدود بالمعنى الحديث موجودة، بل كانت هناك مناطق نفوذ تتغير مع صعود وسقوط الدول.
التحول إلى إيالة عثمانية: توسع النفوذ والسيطرة
مع مطلع القرن السادس عشر، شهدت المنطقة تحولًا جذريًا مع وصول العثمانيين. لم تُضم الجزائر كدولة مستقلة إلى الإمبراطورية العثمانية، بل أصبحت “إيالة الجزائر”، وهي ولاية عثمانية تابعة للسلطان في إسطنبول. بدأت هذه الإيالة كمركز دفاعي ضد التوسع الأوروبي في البحر المتوسط، وسرعان ما نمت لتصبح قوة بحرية مهيمنة، خاصة في عمليات القرصنة البحرية التي كانت تشكل جزءًا من اقتصادها.
كانت الإيالة تحكمها سلالة من البايات والدّايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، لكنهم كانوا يتبعون السلطان العثماني اسميًا. اتسعت سيطرة الإيالة لتشمل أجزاء كبيرة من شمال إفريقيا، وكانت تتمتع باستقلالية شبه كاملة في شؤونها الداخلية والخارجية. في هذه الفترة، لم تكن الجزائر كيانًا موحدًا تمامًا، بل كانت تتكون من مناطق مختلفة، لكل منها خصوصيته، ولكنها جميعًا خضعت لسلطة داي الجزائر العثماني. هذه الفترة عززت من الوجود الحضري والعمراني في المدينة، وأصبحت مركزًا سياسيًا واقتصاديًا له تأثير كبير في المنطقة المغاربية.
فرنسا وتأسيس “الدولة الجزائرية” الحديثة
جاء الغزو الفرنسي للجزائر عام 1830 ليقلب الموازين رأسًا على عقب. لم تأتِ فرنسا لتحرر أو لتستعمر دولة موجودة، بل جاءت لاحتلال إيالة عثمانية، ومن ثم شرعت في عملية استعمار طويلة الأمد. خلال هذه الفترة، قام الاستعمار الفرنسي بإعادة تشكيل الكيان الجغرافي والسياسي للمنطقة. تم توحيد مختلف الكيانات القبلية والمناطق تحت إدارة استعمارية مركزية واحدة، ورسمت حدود جديدة لم تكن موجودة بنفس الشكل من قبل.
يمكن القول إن فرنسا، من خلال إدارتها الاستعمارية وسياستها في توحيد الأراضي وإقامة بنية تحتية وإدارية حديثة، قد وضعت الأسس التي ستقوم عليها “الدولة الجزائرية” الحديثة. حتى بعد الاستقلال عام 1962، ظلت الحدود الإدارية والتقسيمات التي وضعتها فرنسا هي الإطار الذي تشكلت ضمنه الدولة الجزائرية المستقلة. بالتالي، فإن الفهم التاريخي للجزائر يستلزم إدراك أنها لم تولد كدولة ذات سيادة من العدم، بل مرت بمراحل تحول معقدة، من مدينة إلى إيالة عثمانية، لتتشكل حدودها وكيانها كدولة حديثة تحت وطأة الاستعمار، ثم لتنال استقلالها كدولة ذات سيادة على هذه الأسس.
الجزائر: توسع الأراضي وحدود الاستعمار
من الضروري جدًا تسليط الضوء على هذه النقطة المحورية في تاريخ الجزائر الحديث، وهي أن “حدودها الجغرافية الحالية لم تكن ثابتة عبر التاريخ”، بل توسعت بشكل كبير خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية. لم تكن الجزائر في السابق سوى منطقة ساحلية ضيقة، أو “إيالة” عثمانية تتركز حول المدن الساحلية الرئيسية، بينما كانت المناطق الداخلية غالبًا ما تخضع لسيطرة القبائل المحلية أو تكون جزءًا من كيانات سياسية أخرى.
عندما قامت فرنسا باحتلال الجزائر عام 1830، لم تكن تسيطر إلا على شريط ضيق من الساحل. لكن مع تقدم عملية الاستعمار وتثبيت نفوذها، بدأت فرنسا في “توسيع الأراضي الخاضعة لإدارتها” بشكل منهجي. هذا التوسع لم يكن مجرد استكشاف للمناطق الداخلية، بل كان غالبًا على “حساب الأراضي التاريخية والمناطق القبلية التي كانت تابعة لدول مجاورة أو تقع ضمن مناطق نفوذها التقليدية”:
على حساب المغرب: تم ضم أجزاء كبيرة من الصحراء الشرقية، التي كانت تاريخيًا جزءًا من المجال الترابي للمغرب، بالإضافة إلى قبائل ومناطق كانت تدين بالولاء للسلطان المغربي. أدى هذا التوسع إلى رسم حدود مصطنعة فصلت بين قبائل كانت تعيش في تواصل دائم، وأدخلت مناطق شاسعة ضمن الكيان الجزائري الجديد.
على حساب تونس وليبيا: شهدت الحدود الشرقية للجزائر أيضًا توسعًا، وإن كان أقل وضوحًا من الغرب، حيث تم ضم بعض الواحات والمناطق التي كانت تتبع تاريخيًا لكيانات تونسية أو ليبية.
لقد كان لهذه السياسة الاستعمارية في رسم الحدود وتوسيع النفوذ تأثيرات عميقة ودائمة. فبينما كان الهدف الفرنسي هو تثبيت سيطرتها وإدارة المناطق الشاسعة التي احتلتها، فإن النتيجة النهائية كانت “تشكيل كيان جغرافي وسياسي جديد” أصبحت تعرف فيما بعد بـ “الجزائر” متعدد الهويات والمجالات وحتى الغايات.
بعد استقلال الجزائر عام 1962، ورثت الدولة المستقلة هذه الحدود التي رسمتها القوة المستعمرة. ورغم أنها أصبحت حدودًا دولية معترف بها، إلا أنها لا تزال تثير نقاشات تاريخية وسياسية حول شرعيتها وتأثيرها على العلاقات الإقليمية. هذه النقطة الأساسية تبرز كيف أن “الدول ليست كيانات أزلية بحدود ثابتة، بل تتشكل وتتطور تحت تأثير العوامل التاريخية والسياسية، وعلى رأسها الاستعمار في حالة الجزائر”.